
كتاب فن السيرة - إحسان عباس

مقدمة
يعتبر احسان عباس بإصداره كتاب فن السيرة عام 1956م أول ناقد عربي يقف على أصول هذا الفن وقواعده، وأنبأ ذلك الكتاب عن مقدرة فذة وبصيرة نافذة في الكشف عن جذور فني السيرة، والسيرة الذاتية في التراث العربي والآداب الأوروبية.
من هو احسان عباس؟
ولد إحسان عباس في قرية عين غزال بفلسطين عام ١٩٢٠ م، وتعلم حتى تخرج من الكلية العربية في القدس عام ١٩٤١ م، ثم واصل تعليمه العالي حتى نال الدكتوراه من كلية الآداب جامعة القاهرة سنة ١٩٥٤ م.
وقد بدأ تدريسه الجامعي في كلية غوردن التذكارية في السودان، ثم جامعة الخرطوم، ثم انتدب للتدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت عام ١٩٦١ م، وشغل فيها منصب رئيس دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى، ومدير مركز الدراسات العربية ودراسات الشرق الأوسط، ورئيس تحرير مجلة الأبحاث.
وهوعضو في المجمع
العلمي العربي بدمشق والمجمع العلمي الهندي(عن فلسطين) وقضى آخر أيامه أستاذا في الجامعة
الأردنية بعمان.
وفي
عام ١٤٠٠ هـ/١٩٨٠ م نال جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، وكان موضوع
الجائزة "الدراسات التي تناولت
الشعر العربي المعاصر".
وكان غزير الإنتاج تأليفا وتحقيقاً وترجمة من لغة إلى لغة؛ فقد ألف ما يزيد عن ٢٥ مؤلفا بين النقد الادبي والسيرة والتاريخ.
وحقق ما يقارب من ٥٢ كتابا من أمهات كتب
التراث، وله ١٢ ترجمة من عيون الادب والنقد والتاريخ. كان مقلا في شعر لظروفه
الخاصة كونه معلما واستاذا جامعيا، وقد أخذه البحث الجاد والإنتاج النقدي الغزير من
ساحة الشعر والتفرغ له.
أهمية
هذا الكتاب
ويعتبر كتاب فن السيرة كتاب تأسيسي في الثقافة العربية الحديثة، لا يقف عند حدود العرض والترجمة والتلخيص،
وانما ينهض بجملة من النظرات النقدية، والتأملات الفلسفية العميقة، التي تجعل منه
عملاً نقدياً مهماً حافلاً، على قدمه وريادته التاريخية، بالأفكار الجديدة.
يقول إحسان عباس في مقدمة الكتاب:
كنتُ وما أزالُ أؤمن بأنّ الحديث في السيرة، والسيرة الذاتية، يتناول جانباً من الأدب العربيّ عامراً بالحياة، نابضاً بالقوَّة.
وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة.
فنجدها واضحة في الفهم النفسي والاجتماعي عند الجاحظ وأبي حيان وابن خلدون،ونتلقاها في رحلة ابن جبير واحسن التقاسيم وصورة الأرض.
ونستقر بها في سخرية المازني والشدياق وثورة جبران،فإذا جئت اليوم أعراض سيرة صلاح الدين لابن شداد، أو سيرة ابن طولون للبلوي، أو الصراع الروحي في المنقذ من الضلال، أو الصلابة في نفسية ابن خلدون،أو الشجاعة المؤمنة بمصيرها في مذكرات أسامة.
فإنما أحاول ان أنقذ إلى جانب من تلك التجربة، وأضع مفهوما أوسع لمهمة الأديب، ذللك لأن الأشخاص الذين يصلونا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي.
أما أولئك الذين يذهبون بنا في شعاب من الصنعة الرسمية فإنهم يستنزفزن جهودنا على غير طائل، وينقلون تفاهة الماضي الذي عاشوا فيه إلى حاضرنا الذي نرجوه لما هو أجدى.
منهجه في الكتابة
وضع احسان عباس نصب عينه التوازي بين التاريخ والتحليل، وبرأت دراسته للسيرة من آثار النظرات الاستشرافية التي ذاعت في القرن التاسع عشر.
ووجدت، فيما بعد، قبولاً في بعض المحافل العلمية العربية، ومن بينها ذلك التصور «المركزي الغربي» الذي يجعل من «الروح السامي» و«الروح الآري» ضدين لا يلتقيان، ف «الفارق بين الروح السامية والروح الآرية كالفارق بين المخلوط والمزيج في لغة أصحاب الكيمياء.
فعناصر الروح الاولى منفصلة عن بعضها البعض، لا تتفاعل ولا يتأثر الواحد منها بالآخر إلا بمقدار ضئيل. بينما هي في الروح الثانية مرتبطة كأقوى ما يكون الارتباط، متحدة كأوثق ما يكون الاتحاد.
فالزمان بالنسبة إلى الروح الاولى مكون من آنات ولحظات متناثرة ومتنافرة؛ لا تذكر
اللاحقة منها السابقة، ولا تشير الحاضرة منها إلى المستقبلة أو لا تكاد. ولكنه عند
الروح الآرية كل متصل مستمر، يدعو كل جزء منه الجزء الآخر، ان كان فيه ثمت اجزاء،
وبه يهيب. فالماضي مستمر في الحاضر، والمستقبل كامن في هذا الحاضر كذلك، وكأن
الزمان كله حاضر مستمر خالد».
ولكن احسان عباس كان أكثر إحساساً
بالتاريخ، وأمس رحماً بحركته وسيره، فبرأ من الأحكام المسبقة، وسلم منهجه من الجدل
الفائل حول الاعراق والثقافات والعقول. هكذا تتجاوز التجارب التاريخية للأمم،
وهكذا ينمو «الحس التاريخي» لديها.
ولم يختلف شأن السيرة كثيراً، في الآداب الاوروبية عنها في الأدب العربي القديم، إذ مكثت السيرة في الغرب محفوفة بجوانب عظيمة من الضعف والنقص، ولا سيما حينما غدت «السيرة» شأناً من شؤون المتصوفة والقديسين.
فليس ثمة إلا مناح من حيوات القديسين وكراماتهم، وخلت من التجارب الإنسانية، التي تضاءلت ازاء العاطفة الدينية التي سيطرت عليها.
وحينما
أطاف بالغرب، وبخاصة فرنسا وانجلترا، عوامل من الثورة والتحولات الاجتماعية التي
عصفت بالأفكار، فأعلت من قيم وهوت بأخرى، وبزغ نجم «الطبقة الوسطى» خف نفر من الكتاب إلى تصوير حياة العظماء،
واستهوى هذا النوع من الأدب جمهرة واسعة من القراء.
تعريف بالكتاب
جاء كتاب فن السيرة في 176 صفحة يحتوي على خمسة فصول يستهلها بمقدمة وهي:
- تاريخ السير عند المسلمين.
- نحو السيرة الفنية.
- الدرجة الفنية في السيرة.
- السيرة الذاتية ـــ نظرة عامة.
- السيرة الذاتية في الأدب العربي.
مذيلا
الكتاب بفهرس المصادر العربية والأجنبية يليها فهرس الإعلام والموضوعات
خلال
قراءتنا للكتاب نجد أن إحسان عباس قد اعتمد في نقده على سير غربية وعربية ويقتبس من نصوصها،
كما نلاحظ أنه زود هذه الاستشهادات بكم هائل من الأسئلة حول السيرة الذاتية ونقدها
ومن
أهم ما ورد في الكتاب من أراء للكاتب ما يلي
الرأي الأول
العمل الفني ليس وثيقة من الوثائق التي تستعمل في كتابة السيرة الذاتية.
الرأي الثاني
كاتب السيرة هو شخصية حساسة ذات ذوق مرهف، يعيش اللحظة ويكتب العمل بعد طول معاناة، فكل سيرة ذاتية إنما هي تجربة ذاتية لفرد من الأفراد فإذا بلغت هذه التجربة دور، وأصبحت في نفس صاحبها نوعا من القلق الفني، فإنه لابد أن يكتبها.
الرأي الثالث
صاحب السيرة يجب أن يكون شخصية ذات أثر في الحياة ليست شخصية خاملة الذكر، أو لم تترك بصمة في أي مجال من مجالات الحياة.
الرأي الرابع
لابد لكاتب السيرة من يقظة ذهنية مستمرة مشفوعة بإرهاف خاص في التمييز والحدس والترجيح، ذلك لان مهمة كاتب السيرة كمهمة أي فنان بعد أن تصبح المادة جاهزة لديه، حيث يجب أن يكون ممتلكا للموهبة الفنية، يجمع بين حقيقة حياته والملكة السردية.
يمتع القارئ، ويترك أثر في نفسه، كما يضيف في السياق نفسه: فكاتب السيرة أديب فنان كالشاعر، والقصصي في طريقة العرض والبناء.. وهو كالمؤرخ في قوة النقد، وكالعالم في القدرة على التقسيم والتصنيف والتقسيم.
الرأي الخامس
يجب أن تكون كتابة السيرة الذاتية مرتبطة بالناحية الفنية لتجعلها ينبوعا يتدفق من النفس ويفيض على ما حولها وليس مرتبطة بالتاريخ.
الرأي السادس
يرى الكاتب أن السيرة الذاتية ظلت دون شكل تام، ودون محتوى واف كاف حتى العصر الحديث، ومرجع ذلك افتقاد كثير من هذه السير عنصر الصراع الذي يعطي العمل الادبي الحركة والنماء لأنها مفتقرة الى العمق النفسي.
الراي السابع
يري الكاتب أن الجنس سير ذاتي كثر في الآداب الاوربية واقترن في بداياته بالجانب الديني، حيث كانت له غايات تعليمية أخلاقية
كما جاء في كتاب فن السيرة إشارة لفضل وأهمية (الأيام) لطه حسين ومكانتها، وقيمتها الفنية في العصر الحديث قائلا: مكانة لا تطال إليها أي سيرة أخرى لدينا في أدبنا العربي، وذلك لتلك الطريقة البارعة في القصص، والعاطفة الكاملة في ثنياه المستعلنة أحيانا.. وتلك اللمسات الفنية، كما يعتبر كتاب الأيام أكمل ترجمة ذاتية أدبية.
كما
ذكر العديد من اهم كتب السير الذاتية مثل ابن حزم، وتوفيق الحكيم، والمازني، والعقاد،
وكذلك كتاب جبران لنعيمة.
أصناف السيرة الذاتية
قسم
إحسان عباس السیر الذاتية في كتابه (فن السیرة) إلى أربعة أصناف، حیث كان هذا التصنيف
حسب كیانها العام، وغایاتها، وكانت هذه الأصناف كما يلي:
الصنف الإخباري المحض
وهو يضم الحكايات ذات العنصر الشخصي سواء أكانت تسجل تجربة أو خبرا أو مشاهدة كتلك الحكايات التي يقصها الجاحظ وأبو حيان وكذلك مجموعة من السير الذاتية مثل سيرة ابن سينا وابن رضوان وموفق الدين البغدادي.
وكل هذه السير،على تفاوت أصحابها في إعجابهم بأنفسهم، وبما حققوه من مجد أو غاية كانوا يسعون إليها، تفيدنا كثيرا لأنها تقرير مباشر عن تجاربهم في الحياة.وعن جهادهم فيها، فإذا لم تكن فيها المتعة الفنية، والخبر الطريف، والتجربة الصادقة.
صنف يكتب للتفسير والتعليل والاعتذار والتبرير
ويمثل له بالسية الذاتية للمؤيد في الدين الشيرازى، وسيرة ابن خلدون، وكل واحد من هؤلاء كانت تكتنفه ظروف مضطربة فيها مجال للأخذ والرد والقيل والقال.
فكتبوا سيرهم لينصفوا أنفسهم أمام التاريخ وليبرروا ما جرى لهم. وجاء هذا النوع كشرح وتفسير للظروف والملابسات التي اكتنفت حياتهم في الجانب الشخصي.
صنف يصور الصراع الروحيويظهر في سيرة ابن الهيثم، وفي بعض ماكتبه المحاسبي في كتاب النصائح، وفي كتاب المنقذ من الضلال للغزالي.
وليس كتاب الغزالي سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق، لأنه يصورإلا جانبا من أزمة روحية، تعرض لها الغزالي، دون نظرإلى ما عداها، ولكنه رسم هذه الأومة بدقة.
صنف يقص قصة المغامرات في الحياة
وليس لدينا من هذا الصنف سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق، ولكن من أقرب النماذج إليها مذكرات أسامة بن منقذ،التي سماها كتاب الاعتبار.
ففيه يتحدث اسامة عن حياة حافلة بالتجارب والمشاهدات والمغامرات، في أسلوب بسيط ينقل الحوار باللغة الدراجة في ذلك العصر، ولايبرز الكتاب قوة الصراع من الناحية الفكرية، إلا انه يحاول يستخرج العبرة من الأحداث نفسها
مدارس
السير الذاتية
المدرسة الأولى
ذات طابع أكاديمي تقوم دراستها على التشريح والتحليل والتدقيق، في الاستنتاج بعد عرض المتناقض المضطرب من الروايات لاستخلاص الحقائق منهان
وتحتاج هذه الدراسة قوة خارقة من النقد اللازم لكل من المؤرخ والأديب
المدرسة الثانية
وهي مدرسة قديمة في طابعها، لا تؤمن بالدراسة النقدية قدر إيمانها بما قاله القدماء، لذلك كانت دراستها بالتراجم لا تتجاوز إعادة ما كتب من قبل، في بيان إنشائي مفككن وحماسة مفتعلة.
المدرسة الثالثة
هي التي تنتحل السيرة الأدبية أو شكلا مقاربا لها، والرابطة الجامعة لأصحاب هذا الاتجاه هي عنايتهم بالفرد وإنسانيتهعلى أساس من الجو التاريخي، في تطور حياته وشخصيته وتكاملها.
وكل ماخرج عن هذا النطاق ابتعد عما نفهمه من معنى السيرة الفنية أو السيرة الأدبية، فحياة محمد لهيكل مثلا، أو كتاب محمد علي الكبير لشفيق غربال، وحياة الرافعي للعريان، والعبقريات للعقاد .
لاتزال هذه السير أقرب إلى التاريخ منه إلى السير الذاتية،وتتباين في مدى اقترابها من الطريقة الأدبية في كتابة السيرة، وفي مدى ابتعادها عنها.
العناصر المميزة للسيرة الذاتية
- هيمنة طبيعة الاستسلام، مقابل ضعف الإحساس بالصراع الذي يخلق فيها الفن، اما الصراع فهو حاضر في كل مرحلة من مراحل الحياة.
- عنصر التعري النفسي والاعتراف المخلص.
- عنصر العمق النفسي الذي يعتمد على التوافق بين الفرد ومجتمعه
ونظرته الى الناس.
بالإضافة لعدة عناصر أخرى منها
- الحكي الاسترجاعي الصادق.
- واقعية الأشخاص والاحداث.
- تباين القيمة المعرفية والعلمية للأشخاص.
وفي الختام
فإن استطاع هذا العرض لكتاب فن السيرة - إحسان عباس أن يحبب إلى القراءة العودة إلى كتب السير والتراجم الذاتية، والتوفر على قراءتها،فقد أدى مهمته، وإن استطاع أان يصل بينهم وبينها بسبب، ولو كان سببا من المعرفة العابرة فإنها أيضا لم تذهب عبثا ولم يكن الجهد فيها مضيعا.
مع أطيب الأمنيات بقراءة ممتعة


تعليقات
إرسال تعليق